مقال للشيخ موسى فيربر، الباحث بمؤسسة طابة، و المنشور في جريدة واشنطن بوست باللغة الإنجليزية و ميدان مصر باللغة العربية
الخبر المرعب والفاجع الذي جاء من الهند مأساوي بحدِّ ذاته بما يكفي: ضحيتا اغتصاب جماعي لقيتا حتفهما، امرأة عمرها 23 عاماً ماتت متأثرة بجراح إثر اغتصابها، وفتاة عمرها 17 عاماً انتحرت بعد أن أجبرَت على الزواج من أحد مغتصبيها.
هاتان القصتان مريعتان بحدّ ذاتهما بما يكفي، ولكنهما للأسف مذكرتان بحالات مشابهة شهدناها عام 2012. من هذه الحالات فتاة مغربية عمرها 16 عاماً انتحرت بعدما حكمت المحكمة أن تتزوج من الذي اغتصبها؛ وحوادث مشابهة في الأردن ذات صلة بفتاتين واحدة عمرها 14 عاماً والأخرى 15 عاماً. وفي هذه الحالات وغيرها تُدان المجتمعات، وأنظمتها القانونية والقضائية، بتأييدها العفو عن المغتصِبِين إذا عقدت معهم صفقة بالزواج من ضحيتهم. ولديهم في المغرب المادة 457 من القانون الجنائي (التي ترجع أصوله إلى القانون الفرنسي ويقال إنه يختص فقط بحالات ممارسة الجنس بالتراضي قبل الزواج)؛ والأردن لديها المادة 308، وتوجد قوانين مشابهة في بلدان أخرى حيث يبدو أن شرف المرأة ينعكس على عائلتها بطريقة منحرفة إذ يَرْجَحُ عار الاغتصاب على حرمة حياة المرأة وكرامتها.
وحينما أقرأ عن مثل هذه الحوادث تتركني دائماً في حيرة إذ كيف يمكن أن يؤيد مسلمون السماحَ لمغتصب أن ينال العفو بالزواج من ضحيته، وغالباً بالضغط على ضحاياهم وعائلاتهم كي يتعاونوا في ذلك. وبصفتي متخصصاً في الفقه الإسلامي أعلم أنّ هذه الحوادث هي عبارة عن انتهاكات فاضحة لتعاليم الإسلام المتعلقة بحقوق الضحايا وتعريف العدل ومعنى الزواج.
إنّ رؤية الإسلام للعالم جلية واضحة فيما يتعلّق بالحقوق والواجبات في الدفاع عن النفس وعن الآخرين من الاعتداءات على الإنسان والكرامة، لا سيما حالة الاعتداء الجنسي حيث يجب على المرأة أن تصدّ المعتدي عليها ويجب على من يشهد الحادث أن يهرع لنجدتها ومساندتها. ومن الواضح أن تحقيق هذا الواجب يعتمد اعتماداً كبيراً على الظروف التي تجد نفسها فيها وحالتها النفسية وقدرتها على صدّ الاعتداء عليها، إلخ.. وبصرف النظر إن كانت قد همّت حتى بالمحاولة بفعل ذلك أم لم تهمّ به، يبقى الفعل اغتصاباً ويجب أن يعامَل على أنّه كذلك. ويرى بعض العلماء لزوم أن يمتد دفاع المرأة عن نفسها إلى التأثيرات التي تعقب الاعتداء، ومن ذلك أن تستعيد إحساسها بالأمن والأمان، وتُعالَج من الأذى النفسي الذي أصابها، وتجهض الحمل الناجم عن الاغتصاب. وحجة من يناصر هذا الرأي أنّه منسجم مع المقاصد النبيلة للشريعة التي تضع منزلة حفظ حياة المرأة وعقلها فوق حفظ النسل والمال والعِرض. والشرع الحنيف واضح أيضاً بشأن الزواج بأنّه علاقة تقوم على المودّة والاحترام المتبادل والألفة والثقة والحنان واللطف، وهي سكن وملاذ يعصم من الشهوة الجسدية الجامحة.
إنّ إرغام ضحية الاغتصاب على الزواج من مغتصبها (مزعوماً كان أو مداناً) يحرمها من فرصة الدفاع عن نفسها ويعرضها إلى مزيد من الاعتداءات على نفسها وعقلها وعِرضها؛ وفي ذلك أيضاً إكراهٌ لها على العيش في علاقة قائمة على الكراهية والعزلة والعنف والظلم والأذى، وفيه مكافأة لمن اعتدى عليها على اعتدائه.
إنّ التواصي بالمرحمة والحث على الرحمة متأصّل في الإسلام، والعفوُ عن المغتصب الذي يوافق على الزواج من ضحيته وإكراه الضحية على ذلك مناقضٌ للرحمة.
وقد سبق أن رأينا كيف أنّ إرغام الضحايا على الزواج بمن اغتصبهن يحمل إمكانية أن يؤدي إلى الانتحار، وإجبار الضحايا على الزواج بهذه الطريقة يضع عِرض العائلة وكرامتها فوق حياة الضحية وعقلها وعِرضها وكرامتها، وهو مخالف لترتيب الأولويات الذي حدده الشرع الحنيف. فكيف لأحد أن يوفِّق بين هذا القلب لترتيب الأولويات ونظرة الإسلام للعالم التي ترى أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا (المائدة: 32).
ويفعل ذلك بعض المؤيدين له على أساس أن المسألة عرفية وتقع ضمن مرونة الإسلام مع الأعراف والعادات المحلية، وأنّ العرف المحلي يرتّب عاراً كبيراً على الاغتصاب (مزعوماً كان أو ثابتاً)، وأن أفضل وضع للضحية أن تتزوج بمغتصبها (مزعوماً كان أو مُداناً). ولئن كان صحيحاً أنّ الشريعة الإسلامية تضمّنت قَدْراً من المرونة بخصوص العرف والعادة، فإنّ هذه المرونة مقيّدة بما لا يتناقض مع الشريعة الغرّاء أو يخلّ بمقاصدها؛ فباختصار، تقرّ الشريعة الممارسات المتوافقة معها وترفض الممارسات التي تناقضها أو تخلّ بميزانها.
ويشير مؤيدون آخرون إلى أنّ القوانين تختصّ بتطبيقها فقط على حالات الممارسة الجنسية بالتراضي، مثل أن يقوم شاب وفتاة بذلك على أمل إجبار عائلاتهما بالسماح لهما بالزواج، وأنّه حين يبلَّغ عن الحالة يدوَّن الفعل بأنّه واقعة اغتصاب. ومن شأن استخدام هذه العبارة، لحماية المجتمع إلى حدّ ما من العارِ المترتب على الاعتراف بأن المرأة متورطة برضاها بعلاقة جنسية قبل الزواج، أن يفتح باباً مهلكاً لإرغام النساء اللائي انتُهِك عرضهن على ظُلم أكبر وفي بعض الأحيان يفضي بهنّ إلى أن يزهقن أرواحهن بأيديهنّ من جرّاء العذاب النفسي واليأس.
وهناك خطأ ما إلى حدّ كبير عندما ينظر مجتمعٌ إسلامي إلى العارِ المترتب على اغتصاب واحد بأنّه يرجح على تيسير انتشار الفساد وإزهاق الأرواح بغير حقّ.
وقد كان مبعثَ فخرٍ للرعيل الأول من المسلمين أن أذعنوا للأمر الإلهي في القرآن بترك وأدِ البنات وهو فعل كانت تعمد إليه بعض العوائل خشية أن يلحقهم العار. ومن ثمّ افتخر المسلمون على مدى قرون من الزمان بمساهمتهم في رفع مستوى مكانة المرأة. ولكن أيُّ فخر هذا في ترك وأد البنات الصغار في التراب فقط ليكبرن إلى مرحلة البلوغ فيتمنين أن لو كنَّ قد وئدن صغاراً؟
إنّ هذه القصص المتكررة على نحو مأساوي لنساء يُعتدى عليهن مراراً وتكراراً لا يمكن أن توصف إلا أنّها تنكُّبٌ وانحرافٌ عن جادة الإسلام، ويا للأسف، بفعل المسلمين أنفسهم.
الشيخ موسى فيربر زميل باحث في مؤسسة طابة، وهو مجاز في الفتوى من كبار علماء دار الإفتاء المصرية بمن فيهم مفتي الديار المصرية. تابعوه على تويتر:musafurber@.