الجوهر الفرد في عصر ميكانيكا الكم
إن هذا البحث يلقي الضوء على قضية مهمة، كانت ولازالت حاضرةً بقوة على ساحة النقاش العلمي، ألا وهي أهمية التراث الإسلامي، تلك القضية التي تمثل محورًا مهمًا في موضوع تجديد الفكر الإسلامي، من خلال وضع نموذج معرفي مستقل، بعد أن أخفقت الحداثة وما بعدها في تحقيق ما وعدت به من تفسير كل شئ بشكل ماديّ عن طريق العلم التجريبي. والتجديد لن يكون إلا بمعرفة القديم ودراسته جيدًا، حتى يمكننا الاستفادة منه فيما يستجد من أمور. لذا رأيت أن أتناول نموذجًا واحدًا من علم الكلام الإسلامي، أبيّن من خلاله هذه القضية، لتتأكد لدينا أهمية دراسة تراثنا الثري، الذي بذل فيه العلماء وسعهم حسب المتاح من العلوم في عصرهم. هذا النموذج يتمثل في نظرية الجوهر الفرد حيث إنها تكاد تكون نموذجًا مستوفيًا للشروط، تمتزج فيها العلوم الدينية والطبيعية امتزاجًا يصعب فصله، وتتجلى فيها البراهين العقلية والتطبيقات العقائدية على نحوٍ يجعلنا نتساءل كيف تسنّى لمتكلمي الإسلام بناء نظرية كهذه، في عصر لم تبلغ فيها العلوم التجريبية مبلغًا. فنظرية الجوهر كما هو معلوم تمثل ركيزة مهمة في الفكر الكلامي الإسلامي، باعتبارها مقدمة أساسية في الكثير من استدلالاتهم العقدية العقلية، فالجوهر الفرد يمثل وحدة بناء الجسم عند المتكلمين؛ أي أنه أصغر جزء يمكن أن ينحل إليه الجسم، فهو الجزء الذي لا يتجزأ. وكذلك بيّنوا علاقة الجوهر بالعرَض، وكيف استخدموا هذه المقولات في الاستدلال على أهم العقائد الإسلامية كحدوث العالم ووجود الله عزوجل والخلق المستمر، وإعادة المعدوم في الآخرة. ولأن هناك من يخلط بين الذّرة، سواء عند الفلاسفة الطبيعيين أوعند علماء الطبيعة خاصة في عصر ميكانيكا الكم، وبين الجوهر الفرد عند المتكلمين، فقد تطرق البحث لإزالة هذا الالتباس، وتسليط الضوء على أهم الفروق بين هذه المذاهب. الأمر الذي من خلاله يتضح خطأ قول من يقول بانهيار المذهب الأشعري بعد تفتت الذرّة واكتشاف الجسيمات دون الذرية. إن متكلمي الإسلام قد جمعوا بين التصور الطبيعي والتصورالعقلي والميتافيزيقي والذوق، فجاء تصورهم للعالم وأجزائه متكاملًا من خلال نموذجهم المعرفي المستق،. ومن ثم استطاعوا المشاركة والمساهمة في بناء الحضارة الإنسانية. وانطلاقا من هذا النظرية النموذج “نظرية الجوهر الفرد” ينبغي التأكيد على ضرورة دراسة باقي النظريات المشابهة في الفكر الاسلامي، مع بيان التقاطعات بين التخصصات المختلفة، وفائدة التراكمات في العلوم الدينية والنظرية والتجريبية، وأنه لا قطيعة بين الدين والعلم من جهة، ولا بين الفلسفة والعلم من جهة أخرى، بل ان العلاقة بين الجميع هي علاقة تكاملية، فهذا من شأنه أن يُعيد لنا الثقة بتراثنا الإسلامي، وأن نستعيد ما كان عليه السابقون من دقةٍ في البحث مع امتلاك أدواته ووسائله، وحرصٍ شديد على التمسك بالهوية مع انفتاح على الحضارة الإنسانية.