ثمة أفعال تخالف الشريعة الإسلامية مخالفة مفرطة في جَورها بحيث لا يعوزها إنكارٌ حالَ وقوعها؛ بيد أنّه لو تكرَّر فعل قبيح من تلك الأفعال فيغدو من اللازم إنكاره وإدانته لئلا يعطي السكوت عنه دلالة على استصواب ضمني له بما يسمح لآخرين أن يحذوا حذوه. ومن بين هذه الانتهاكات الواجب إنكارها مشاركة الأطفال في القتال المباشر في الصراعات الدائرة.
فقد ذكرت هيئة الإذاعة البريطانية، في (6/1/2014)، أنّ فتاةً أفغانية كانت ترتدي حزامًا ناسفًا وقعت في قبضة الشرطة، اليوم الذي قبله، في جنوب أفغانستان بعد فشل محاولتها في تنفيذ اعتداء على شرطة الحدود. وذكر التقرير أنّ الفتاة قد لا يتجاوز عمرها ثمان سنين، وأنّه يعتقد أنّها أخت قائد بارز في حركة طالبان. في حين نشر موقع هوفِنغتون بوست الإخباري في وقت لاحق من ذلك اليوم أنّ الفتاة كانت بين الثامنة والعاشرة من العمر وأنّها “كانت مدفوعة من قبل أخيها لتولّي المهمّة”. وذكرت تقارير في اليوم التالي الثلاثاء أنّها كانت ”مُكرَهة “ أو ”ضُغِط عليها“ للإقدام على هذه المهمّة الانتحارية.
حالما علمت بالقصة يوم الاثنين كان أول ردة فعل لي أنِ انتابني فزع من اعتداء آخر جديد تنتهِك أهدافُه ووسائله الشريعة الإسلامية؛ وقد أزعجني ما يُنشَر من تكرُّر هذه الانتهاكات وأقلقني ما قد يجده أيُّ مسلم مسوِّغًا لاعتبار مثل هذا الاعتداء جائزًا شرعًا.
غير أنَّ أكثر ما وجدته مريعًا في قصة الإثنين أنْ يسمح شخصٌ لطفلٍ (فضلاً عن إكراهِه) أن يشارك باعتداء من أي نوع كان، إذ إنّ فعل ذلك يعدّ انتهاكًا لا يدانيه شكٌّ ولا ريب للشريعة الإسلامية.
اتِّخاذ الأطفال مقاتلين
اتُخِذ مقاتلون من الأطفال خلال أغلب مراحل التاريخ البشري، ومنذ عام 1970، كانت هناك عدة محاولات للحدّ من مشاركة الأطفال في الصراعات القتالية. وهناك قدرٌ كبير من الاتفاق في المجتمع الدولي على عدم شرعية اتخاذ مقاتلين من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن خمس عشرة سنة. وفي هذا الخصوص، صيغت اتفاقيات وقرارات ومواد، منها: المادة 77.2 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف؛ والمادة 38 من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل؛ والفقرة 2/ب/26 من المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؛ وقرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة رقم 1261. على أنّ بعض الدول لديها تشريع يسمح بالملاحقة القانونية لِمَن يجنّد الأطفال أو للجنود الأطفال، مثل قانون الولايات المتحدة الأمريكية عام 2008 بشأن مساءلة الجنود الأطفال.
وإن كان الناس معظمهم لا دراية لهم بهذه المواد والقرارات ولكن عندهم وعي ضمني تشكّل ممّا وضعته بلدانهم من قيود الحد الأدنى من العمر للتجنيد الإلزامي أو الانضمام الطوعي للقوات المسلحة. وعلى الرغم من كل هذه المواد القانونية والقرارات والتشريعات لا يفتأ اتخاذ مقاتلين من الأطفال قضية عالمية من قضايا حقوق الإنسان، حتى في الدول الغربية.
وقد ذكرت مقالة في مجلة Foreign Policy (السياسة الخارجية) أنّه:
“في واقع الأمر تقوم بريطانيا والولايات المتحدة أيضًا بتجنيد مَن هم في عمر 17 سنة، أي لا يزالون أطفالاً من حيث التعريف القانوني، على أساسِ أنه لا يُسمح لهم بالمشاركة في القتال (مع أنّ كلتا الدولتين اعترفت بوضع مَن كانت أعمارهم دون 18 سنة في خطوط النار الأمامية في أفغانستان والعراق). وإنّ أستراليا والنمسا وكندا ولوكسمبورغ وهولندا ونيوزيلندا لديها كلّها سياسات مماثلة”.
قصة يوم الأحد (5/1/2014) ليست حادثة معزولة أبدًا، فقد كشفت مقالات أخرى عن تكرار اتخاذ مقاتلين من الأطفال في صراعات مسلحة ماضية وأخرى جارية شارك فيها أعداد كبيرة من المسلمين، كما جرى في أفغانستان و البلقان و العراق و سورية و اليمن. وهذا التاريخ القريب من اتخاذ الأطفال مقاتلين يتعارض مع فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم ويخالف الشريعة الإسلامية.
النظرة الإسلامية
أكثر الناس، بل أكثر المسلمين، لا يدركون أنَّ الإسلام يقرِّر حظر اتخاذ مقاتلين من الأطفال منذ عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ هذه الحدود العُمْرية ظلّت منذ ذلك الحين جزءًا من الفقه الإسلامي. ومن الأدلة على القيود الشرعية على العمر ما ورد في الصحيح من أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلّم لم يأذن لأطفال بالمشاركة في الجهاد.
وقد أدرجت أمّهات المتون الفقهية شروطًا يجب توفرها عند المرء حتى تكون المشاركة في الكفاح المسلح واجبةً عليه؛ ومن هذه الشروط أن يكون المرءُ مسلمًا بالغًا عاقلاً ذكرًا صحيحًا قادرًا على القتال. والبلوغ والقدرة هما الشرطان الأهم في صلتهما بمسألة المقاتلين الأطفال.
والأحاديث التي ورد فيها أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ردَّ غلمانًا صغارًا عن الالتحاق بالكفاح المسلَّح تعدّ من الأدلة على كون البلوغ شرطًا في الجواز. وقد بيَّن العلماء أن البلوغ أحد شروط التكليف، فلا يُطالَب بأداء الواجبات الشرعية كالصلاة أو الزكاة أو الصوم أو الحج أو الجهاد إلا مسلمٌ بالغ عاقل.
وقد شرح العلماء البلوغ بأنّه يعني بلوغ الحلم وعلامته في العادة عند الذكور خروج المني وعند الإناث الحيض. وهنا قد يفترض أحدٌ أنّه من الممكن ألا تكون الفتاةُ صاحبةُ قصة الاثنين طفلةً وفق الشريعة الإسلامية إذ يُحتمَل أن تكون قد بلغت، مما يجعلها مكلّفة شرعًا ولديها القدرة على أخذ قراراتها. ولئن كان هذا ممكنًا فإنّه يبدو مستبعدًا إذ تشير الدراسات إلى أنّ متوسط عمر الفتيات الذي يبدأ فيه الحيض في أفغانستان هو 13.8 سنة. فطالما لا يوجد دليل على خلاف ذلك فإنّ علينا أن نتمسّك بما نحن متيقنون منه (بأنّها طفلة) ونطرح ما هو إلا ظنّ (أنها دخلت مرحلة البلوغ).
أمّا بالنسبة إلى مسألة الإكراه: فإنّه لا يجوز شرعًا أن يُكرَهَ شخصٌ على فعل شيء لا يحلُّ له القيام به. ولا يجوز أيضًا أن يُكرَه الشخص على القيام بما هو مكلَّف به، ما عدا بضع حالات يمكن فيها للسلطات المسؤولة أن ترغم شخصًا على تنفيذ واجب إلزامي كردِّ مغصوب أو أداء حقوق مستحقة لآخرين. وبما أنّ الجهاد لا يجوز للأطفال أو الصبيان ولا يجب على الإناث، إلا في حالات نادرة، فإنه لا يجوز إكراههم على مشاركتهم فيه.
ويتضح مما تقدّم أنّ قيامَ أطفالٍ مسلمين بدور قتالي، وإن كانوا متطوعين، مخالفٌ للشريعة الإسلامية مخالفةً صريحة. وللأسف الشديد فإنّ تعطّل المرجعية السياسية والدينية التي كان يمسك بزمامها في الماضي أتباعُ المذاهب الفقهية المعتبرة قد ترك فراغًا فقهيًّا صار فيه الاستسهال المفرط للوسائل من أجل الغايات هو المعيار. هذا وإنّه من الضرورة بمكان أن يوضّح علماءُ المسلمين وقادة الدين والفكر والتربية والإرشاد لعامة الناس أنَّ هذه الأفعال تنتهك تعاليم الإسلام، وأنَّه يجب أن يكفَّ الناسُ وينأَون بأنفسهم عن دعم مَن يدعون إلى اتخاذ مقاتلين من الأطفال أو مَن يسهّله ويفسح المجال له.